التأمل
الأول: في الأشياء التي يمكن ان توضع موضع الشك
1.
ينبغي لنا، كي نقيم العلوم على قواعد ثابتة، ان نرفض كل آرائنا القديمة،
مرة في حياتنا.
تبين
لي، منذ حين، انني تلقيت، إذ كنت ناعم الأظفار، طائفة من الآراء الخاطئة
ظننتها صحيحة. ثم وضح لي ان ما نبنيه بعد ذلك على مبادئ، تلك حالها
من الاضطراب، لا يمكن ان يكون الا أمراً يشك فيه، كثيراً ويرتاب منه.
لهذا قررت ان أحرر نفسي، جدياً، مرة في حياتي، من جميع الآراء التي
آمنت بها قبلاً، وان ابتدئ الأشياء من أسس جديدة، إذا كنت أريد ان
أقيم في العلوم قواعد وطيدة، ثابتة مستقرة. غير ان المشروع بدا لي
ضخماً للغاية، فتريثت حتى أدرك سناً لا سن أخرى، بعدها، آمل ان أكون
فيها اصلح نضجاً لتنفيذه. من اجل هذا أرجأته مدة طويلة. اما اليوم
فقد غدوت اعتقد انني أخطئ إذا ترددت أيضاً، دون ان اعمل في ما بقي
لي من العمل.
2.
لا داعي لامتحان كل الآراء القديمة بالتفصيل. يكفي ان نعالج أهمها.
الآن،
وقد تخلصت من كل شاغل، وظفرت براحة مضمونة في عزلة مطمئنة، فانني أجدني
حراً في تقويض جميع آرائي القديمة، وليس بواجب، كي أدرك هذه الغاية،
ان أبين زيفها كلها فقد لا انتهي منه أبداً. وإنما يكفي، لرفضها كلها،
ان أجد لها سبباً للشك فيها. إذ ان العقل يريني انه ينبغي لي الا أكون
اقل رفضاً للأمور التي لم تبلغ مرتبة اليقين التام، مني للأمور الفاسدة
حقاً.
3.
في ان هذه المبادئ هي الحواس، التي لا يمكن ان يوثق بها، لأنها خدّاعة.
كل
ما تلقيته، حتى الآن، على انه اصدق الأمور وأوثقها، قد اكتسبته بالحواس،
أو عن طريق الحواس. غير اني وجدت الحواس خدّاعة في بعض الأوقات، ومن
الحكمة الا نطمئن أبدا كل الاطمئنان إلى من يخدعنا، ولو مرة واحدة.
4.
يبدو لنا انه يستحيل على حواسنا ان تخدعنا في بعض
الأمور.
ولئن
كانت الحواس تخدعنا، بعض الأحيان، في أشياء صغيرة جداً وبعيدة عن متناولنا،
فهناك أشياء كثيرة أخرى لا يُعقل ان نشك فيها، وان كنا نعرفها بطريق
الحواس. مثال ذلك، ان ألبس عباءة المنزل، فاجلس هنا قرب النار، وقد
مسكت بين يدي تلك الورقة، وأشياء أخرى من هذا القبيل. كيف أستطيع ان
أنكر هاتين اليدين وهما يداي، وذلك الجسم وهو جسمي، اللهم الا إذا
أصبحت كبعض المخبولين، الذين اختلت أذهانهم، وغُشى عليها بالأبخرة
السود الصاعدة من الصفراء. هؤلاء لا ينفكون يؤكدون انهم ملوك، في حين
انهم فقراء جداً. ولا ينفكون يؤكدون انهم يلبسون ثياباً موشاة بالذهب
والأرجوان، في حين انهم عراة جداً. ولا ينفكون يتخيلون انهم جرار،
أو ان لهم أجساماً من زجاج. هؤلاء مجانين. ولن أكون اقل شططاً منهم
إذا نسجت على منوالهم.
5.
الا اننا قليلو الثقة بها، مما يجعلنا غير قادرين على التمييز، حتى
بين اليقظة والحلم.
لكن
يترتب علي، في هذا المكان، ان آخذ بعين الاعتبار انني إنسان، من عادتي
ان أنام، وان أرى في أحلامي الأشياء ذاتها، التي يراها هؤلاء المخبولون
في يقظتهم، أو أشياء هي ابعد منها عن الواقع. فكم مرة حلمت اني جالس
قرب النار ههنا، وقد لبست ثيابي، مع اني في سريري متجرد من كل ثوب.
وهكذا لا يبدو لي، في الحلم، اني لا انظر إلى هذه الورقة، بعينين نائمتين،
ولا ان هذا الرأس الذي أهز هو رأس ناعس. بالعكس، يبدو لي انني ابسط
يدي واشعر بها عن قصد وتصميم. ان ما يقع في الحلم هو أيضاً ليس بالواضح
المتميز. إذ كثيراً ما أتذكر، وقد أطلت النظر في الأمر، اني انخدعت
في الحلم بمثل هذه الرؤى. لذا أرى بغاية الجلاء، حين أقف عند هذه الفكرة،
انه لا يوجد علامات قاطعة، ولا إمارات يقينية كفاية، نستطيع بها ان
نميز بين اليقظة والحلم، تمييزاً دقيقاً. وعليه فذهولي عظيم حتى يكاد
يقنعني باني نائم.
6.
ان الأمور التي نتمثلها في الحلم ليست متخيلة كل التخيل.
لنفرض
الآن، إذن، اننا نائمون، وأن جميع هذه الخصائص، من فتح العينين، وهز
الرأس، وبسط اليدين، وما شابه، ان هي الا رؤى كاذبة. ولنفرض ان أيدينا،
وجسمنا كله، قد لا يكون على نحو ما نراه. ولكن ينبغي التسليم، على
الأقل، بان الأشياء التي نتمثلها في الحلم هي بمثابة لوحات وصور، لا
يُستطاع تكوينها الا على غرار شيء واقعي حقيقي. وهكذا، على الأقل،
لا تكون هذه الأشياء العامة (كالعينين، والرأس، واليدين، وكل باقي
الجسم) أشياء متخيلة، لكنها أشياء واقعية موجودة. إذ المصورون، وان
بذلوا ما أوتوا من قدرة على تمثيل بنات البحر والتيوس الآدمية في أشكال
غريبة جداً، وبعيدة عن المألوف، لا يستطيعون رغم ذلك ان يضفوا عليها
أشكالاً وطبائع جديدة كل الجدة. وإنما الذي يصنعونه هو مزيج وتأليف
من أعضاء مختلف الحيوانات. وإذا جمح الخيال عندهم، فابتدعوا شيئاً
يبلغ مرتبة من الجدة، لا يرى أحد قط له مثيلاً، فان عملهم يكون شيئاً
مختلقاً بالأساس، وزائفاً كل الزيف. يبقى، على الأقل، ان الألوان التي
يؤلفونها منها، لا بد لها من ان تكون حقيقية.
7.
يبدو ان صورته عن الأشياء تتركب من الأفكار التي لدينا عن أشياء أخرى
ابسط، هي موجودة حقاً.
ومع
ان هذه الأشياء العامة (اعني الجسم، والعينين، والرأس، واليدين، وما
شابه) هي أشياء خيالية، فمن الواجب ان نعترف رغم ذلك، قياساً على ما
تقدم، بوجود أشياء أخرى ابسط منها واشمل، هي موجودة حقاً. من امتزاجها،
على نحو ما، تخرج بعض الألوان الحقيقية، فيتكون كل ما يقوم لدى فكرنا
من صور الأشياء، سواء كانت هذه الصور حقيقية واقعية، أو مختلقة وهمية.
من هذه الأشياء المتمددة وكمها أو مقدارها، وعددها. وكذا الحيز الذي
هي فيه، والزمان الذي تدوم به، وما شابه.
8.
ان العلوم، التي تدور على هذه الأشياء، تضم حقائق يظهر انه لا يمكن
الشك فيها.
لعلنا
غير مخطئين، إذن، في الاستنتاج ان علوم الطبيعة، والفلك، والطب، وسائر
العلوم الأخرى، التي تدور على الأشياء المركبة، هي عرضة لشك قوي. ان
الثقة بها قليلة. اما الحساب، والهندسة، وما شاكلهما من العلوم، التي
لا تنظر الا في أمور بسيطة جداً، وعامة جداً، دون اهتمام كثير بمبلغ
تحقيق هذه الأمور في الخارج، أو عدم تحقيقها، فهي تحتوي على شيء يقيني،
لا سبيل إلى الشك فيه. فسواء كنت يقظاً أو نائماً، هنالك حقيقة ثابتة،
وهي ان مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائماً، وان المربع لن يزيد على
أربعة أضلاع أبداً. ان حقائق قد بلغت هذه المرتبة من الوضوح، لا يمكن
ان تكون موضع خطأ، أو عدم يقين.
9.
في الأسباب التي تدفعنا رغم هذا إلى الريبة من حقيقة تلك الأشياء.
مع
ذلك فقد رسخ في ذهني، منذ زمن طويل، معتقد فحواه ان هنالك إلهاً قادراً
على كل شيء، هو الذي خلقني وصنعني على نحو ما أنا موجود. فما يدريني؟
لعله قضى ان لا يكون هناك ارض، ولا سماء، ولا جسم ممتد، ولا شكل، ولا
مقدار، ولا حيز، ودبر مع ذلك ان أحس بهذه الأشياء، جميعاً، فتبدو لي
كائنة على غرار ما أراها؟ ثم لما كنت أرى، أحياناً، كيف ان الآخرين
يغلطون في الأمور، التي يحسبون انهم اعلم الناس بها فما يدريني، لعله
قدر لي ان اغلط، أنا أيضاً، كلما جمعت اثنين وثلاثة، أو أحصيت أضلاع
مربع ما، أو أطلقت حكماً على شيء اسهل من ذلك، ان كان ثمة شيء اسهل؟
لكن اما قيل عن الله انه كريم رحيم؟ لعله لم يرد تضليلي على هذا النحو؟
فإذا كان مما يتنزه عنه الله ان يكون قد خلقني عرضة للخطأ، دائماً،
فمما لا يليق بمقامه ان يأذن بوقوعي في الخطأ أحياناً. واني على يقين
ان هذا لا يقع بإذنه.
10.
إذن لا يوجد شيء غير ممكن ان نشك فيه إلى حد ما.
قد
نعثر على أناس يميلون إلى إنكار وجود اله ذي قدرة كهذه القدرة، اكثر
مما يميلون إلى الاعتقاد بان كل الأشياء الباقية هي عارية من اليقين.
لا نريد الآن ان نعارض هذا الرأي. لنقف بجانبهم مسلّمين معهم ان الذي
قيل هنا عن اله ما هو الا حديث خرافة. ولكن، مهما تكن الوجوه التي
يعتمدون عليها، لتفسير ما وصلتُ إليه من حال وكيان (سواء أعادوهما
إلى القضاء والقدر، أو عزوهما إلى المصادفة، أو أرجعوهما إلى سلسلة
من العلل والمعلولات، أو إلى أي سبب آخر) فان قدرة الصانع، الذي يجعلونه
علة لوجودي تنقص، ما دام الخطأ والضلال نوعاً من أنواع النقص، بقدر
ما انقص أنا فأتعرض للضلال دائماً. ليس عندي ما أجيب عن حججهم. الا
انه لا مناص لي من الاعتراف بان كل الآراء التي حسبتها من قبل حقاً،
أستطيع ان أشك فيها بطريقة ما. يمكنني الآن، ان ارتاب من أي رأي، لا
بطيش ورعونة، وإنما بفضل أدلة ناضجة قوية جداً. لذا ينبغي لي، إذا
أردت الاهتداء إلى أمر ثابت أكيد في العلوم، ان امتنع عن تصديق ما
يمكن الشك فيه، امتناعي عن تصديق ما يتضح فيه الخطأ اتضاحاً شديداً.
11.
في انه لا يكفي ان نبدي هذه الملاحظات، وإنما يجب حفرها في أعماق أذهاننا.
ذلك
لان الفائدة لا تأتي فقط من اعتبار آرائنا القديمة قابلة للشك، بل
أيضاً من افتراضها خاطئة. لا خطر ولا ضلال في إتباع هذا المسلك.
ولكن
لا يكفي ان ابدي هذه الملاحظات، بل ينبغي لي أيضاً ان أوطدها في ذاكرتي،
لأن الآراء القديمة، المألوفة، تعاودني بين الفينة والفنية. ان طول
ألفها لي جعلها تشغل ذهني قسراً، وتتحكم تقريباً بمعتقدي. الا انني
سأحترمها ... ما دمت أراها في واقعها، اعني في انها مدعاة للشك، من
بعض الوجوه، كما ابنته الآن. مع ذلك هي محتملة كثيراً، مما يجعل التصديق
بها أصوب من إنكارها. لذا أكون حكيماً إذا تعمدت موقفاً معاكساً، فاكذب
نفسي، إذ افترض إلى حين ان جميع الآراء باطلة خيالية، ريثما يتيسر
لي ان أوازن بين القديمة والجديدة. وهكذا لا يميل رأي إلى جانب دون
جانب، ولا تسيطر التقاليد الخاطئة على حكمي، فيشتط عن الطريق المستقيم،
الذي يقدر ان يرشدني إلى معرفة الحقيقية. أنا واثق انه لا خطر في إتباع
هذا المسلك، ولا ضلال. مهما أبالغ في الحذر فلن أكون مسرفاً، لأن مطلبي
الآن ليس العمل وإنما التأمل والمعرفة.
12.
ما هي الافتراضات، التي يجب ان نفترضها، وكيف ينبغي لنا ان نستخدمها.
سأفترض
إذن ان لا إلهاً حقاً (الذي هو مصدر الحقيقة الأعلى) بل ان شيطاناً
سيئاً، لا يقل خبثه ومكره عن بأسه، قد استعمل كل ما أوتي من حنكة لتضليلي.
وسأفترض ان السماء، والهواء، والأرض، والألوان، والأشكال، والأصوات،
وسائر الأشياء الخارجية التي نرى، ليست الا أوهاماً وخيالات، يلجأ
إليها الشيطان كي يقنعني. وسأفترض اني خلو من العينين واليدين واللحم
والدم والحواس، التي أتوهم خطأ اني املكها جميعاً. وسأتشبث بهذه الافتراضات
التي، ان لم أتمكن بها من الوصول إلى معرفة أي حقيقة، تدفعني على الأقل
ان أتوقف عن الحكم. لذا سأحذر كثيراً من التسليم بما هو باطل. سأواجه كل الحيل التي يعمد
إليها ذلك المخادع الكبير، حتى لا يتمكن (مهما يكن بأسه ومكره) ان
ينيخنيلشيء
أبداً.
13.
في ان تحقيق هذا المطلب صعب للغاية.
لكن
هذا المطلب شاق كثير العناء. وشيء من الكسل يجرفني، دون شعور مني،
في سياق حياتي العادية. مثلي هنا مثل عبد يتلذذ في المنام بحرية موهومة.
وإذ فطن إلى ان حريته ليست غير أضغاث أحلام، خاف ان يصحو من نومه،
فطاب له ان يمالئ هذه الأوهام اللذيذة، ليطول أمد انخداعه بها. كذلك
حالي: انجرف من تلقاء ذاتي، ودون وعي مني، في تيار آرائي القديمة،
ولا أريد ان أصحو من غفوتي هذه، خشية ان أجد، بعد الراحة الهادئة،
اليقظة الشاقة التي، بدل ان تجلب لي قليلاً من الوضوح والنور في معرفتي
للحقيقة، تبان عاجزة عن تبديد كل ظلمات المصاعب الناشئة.
التأمل
الثاني: في عناصر الأشياء المادية
الأول: في الأشياء التي يمكن ان توضع موضع الشك
1.
ينبغي لنا، كي نقيم العلوم على قواعد ثابتة، ان نرفض كل آرائنا القديمة،
مرة في حياتنا.
تبين
لي، منذ حين، انني تلقيت، إذ كنت ناعم الأظفار، طائفة من الآراء الخاطئة
ظننتها صحيحة. ثم وضح لي ان ما نبنيه بعد ذلك على مبادئ، تلك حالها
من الاضطراب، لا يمكن ان يكون الا أمراً يشك فيه، كثيراً ويرتاب منه.
لهذا قررت ان أحرر نفسي، جدياً، مرة في حياتي، من جميع الآراء التي
آمنت بها قبلاً، وان ابتدئ الأشياء من أسس جديدة، إذا كنت أريد ان
أقيم في العلوم قواعد وطيدة، ثابتة مستقرة. غير ان المشروع بدا لي
ضخماً للغاية، فتريثت حتى أدرك سناً لا سن أخرى، بعدها، آمل ان أكون
فيها اصلح نضجاً لتنفيذه. من اجل هذا أرجأته مدة طويلة. اما اليوم
فقد غدوت اعتقد انني أخطئ إذا ترددت أيضاً، دون ان اعمل في ما بقي
لي من العمل.
2.
لا داعي لامتحان كل الآراء القديمة بالتفصيل. يكفي ان نعالج أهمها.
الآن،
وقد تخلصت من كل شاغل، وظفرت براحة مضمونة في عزلة مطمئنة، فانني أجدني
حراً في تقويض جميع آرائي القديمة، وليس بواجب، كي أدرك هذه الغاية،
ان أبين زيفها كلها فقد لا انتهي منه أبداً. وإنما يكفي، لرفضها كلها،
ان أجد لها سبباً للشك فيها. إذ ان العقل يريني انه ينبغي لي الا أكون
اقل رفضاً للأمور التي لم تبلغ مرتبة اليقين التام، مني للأمور الفاسدة
حقاً.
3.
في ان هذه المبادئ هي الحواس، التي لا يمكن ان يوثق بها، لأنها خدّاعة.
كل
ما تلقيته، حتى الآن، على انه اصدق الأمور وأوثقها، قد اكتسبته بالحواس،
أو عن طريق الحواس. غير اني وجدت الحواس خدّاعة في بعض الأوقات، ومن
الحكمة الا نطمئن أبدا كل الاطمئنان إلى من يخدعنا، ولو مرة واحدة.
4.
يبدو لنا انه يستحيل على حواسنا ان تخدعنا في بعض
الأمور.
ولئن
كانت الحواس تخدعنا، بعض الأحيان، في أشياء صغيرة جداً وبعيدة عن متناولنا،
فهناك أشياء كثيرة أخرى لا يُعقل ان نشك فيها، وان كنا نعرفها بطريق
الحواس. مثال ذلك، ان ألبس عباءة المنزل، فاجلس هنا قرب النار، وقد
مسكت بين يدي تلك الورقة، وأشياء أخرى من هذا القبيل. كيف أستطيع ان
أنكر هاتين اليدين وهما يداي، وذلك الجسم وهو جسمي، اللهم الا إذا
أصبحت كبعض المخبولين، الذين اختلت أذهانهم، وغُشى عليها بالأبخرة
السود الصاعدة من الصفراء. هؤلاء لا ينفكون يؤكدون انهم ملوك، في حين
انهم فقراء جداً. ولا ينفكون يؤكدون انهم يلبسون ثياباً موشاة بالذهب
والأرجوان، في حين انهم عراة جداً. ولا ينفكون يتخيلون انهم جرار،
أو ان لهم أجساماً من زجاج. هؤلاء مجانين. ولن أكون اقل شططاً منهم
إذا نسجت على منوالهم.
5.
الا اننا قليلو الثقة بها، مما يجعلنا غير قادرين على التمييز، حتى
بين اليقظة والحلم.
لكن
يترتب علي، في هذا المكان، ان آخذ بعين الاعتبار انني إنسان، من عادتي
ان أنام، وان أرى في أحلامي الأشياء ذاتها، التي يراها هؤلاء المخبولون
في يقظتهم، أو أشياء هي ابعد منها عن الواقع. فكم مرة حلمت اني جالس
قرب النار ههنا، وقد لبست ثيابي، مع اني في سريري متجرد من كل ثوب.
وهكذا لا يبدو لي، في الحلم، اني لا انظر إلى هذه الورقة، بعينين نائمتين،
ولا ان هذا الرأس الذي أهز هو رأس ناعس. بالعكس، يبدو لي انني ابسط
يدي واشعر بها عن قصد وتصميم. ان ما يقع في الحلم هو أيضاً ليس بالواضح
المتميز. إذ كثيراً ما أتذكر، وقد أطلت النظر في الأمر، اني انخدعت
في الحلم بمثل هذه الرؤى. لذا أرى بغاية الجلاء، حين أقف عند هذه الفكرة،
انه لا يوجد علامات قاطعة، ولا إمارات يقينية كفاية، نستطيع بها ان
نميز بين اليقظة والحلم، تمييزاً دقيقاً. وعليه فذهولي عظيم حتى يكاد
يقنعني باني نائم.
6.
ان الأمور التي نتمثلها في الحلم ليست متخيلة كل التخيل.
لنفرض
الآن، إذن، اننا نائمون، وأن جميع هذه الخصائص، من فتح العينين، وهز
الرأس، وبسط اليدين، وما شابه، ان هي الا رؤى كاذبة. ولنفرض ان أيدينا،
وجسمنا كله، قد لا يكون على نحو ما نراه. ولكن ينبغي التسليم، على
الأقل، بان الأشياء التي نتمثلها في الحلم هي بمثابة لوحات وصور، لا
يُستطاع تكوينها الا على غرار شيء واقعي حقيقي. وهكذا، على الأقل،
لا تكون هذه الأشياء العامة (كالعينين، والرأس، واليدين، وكل باقي
الجسم) أشياء متخيلة، لكنها أشياء واقعية موجودة. إذ المصورون، وان
بذلوا ما أوتوا من قدرة على تمثيل بنات البحر والتيوس الآدمية في أشكال
غريبة جداً، وبعيدة عن المألوف، لا يستطيعون رغم ذلك ان يضفوا عليها
أشكالاً وطبائع جديدة كل الجدة. وإنما الذي يصنعونه هو مزيج وتأليف
من أعضاء مختلف الحيوانات. وإذا جمح الخيال عندهم، فابتدعوا شيئاً
يبلغ مرتبة من الجدة، لا يرى أحد قط له مثيلاً، فان عملهم يكون شيئاً
مختلقاً بالأساس، وزائفاً كل الزيف. يبقى، على الأقل، ان الألوان التي
يؤلفونها منها، لا بد لها من ان تكون حقيقية.
7.
يبدو ان صورته عن الأشياء تتركب من الأفكار التي لدينا عن أشياء أخرى
ابسط، هي موجودة حقاً.
ومع
ان هذه الأشياء العامة (اعني الجسم، والعينين، والرأس، واليدين، وما
شابه) هي أشياء خيالية، فمن الواجب ان نعترف رغم ذلك، قياساً على ما
تقدم، بوجود أشياء أخرى ابسط منها واشمل، هي موجودة حقاً. من امتزاجها،
على نحو ما، تخرج بعض الألوان الحقيقية، فيتكون كل ما يقوم لدى فكرنا
من صور الأشياء، سواء كانت هذه الصور حقيقية واقعية، أو مختلقة وهمية.
من هذه الأشياء المتمددة وكمها أو مقدارها، وعددها. وكذا الحيز الذي
هي فيه، والزمان الذي تدوم به، وما شابه.
8.
ان العلوم، التي تدور على هذه الأشياء، تضم حقائق يظهر انه لا يمكن
الشك فيها.
لعلنا
غير مخطئين، إذن، في الاستنتاج ان علوم الطبيعة، والفلك، والطب، وسائر
العلوم الأخرى، التي تدور على الأشياء المركبة، هي عرضة لشك قوي. ان
الثقة بها قليلة. اما الحساب، والهندسة، وما شاكلهما من العلوم، التي
لا تنظر الا في أمور بسيطة جداً، وعامة جداً، دون اهتمام كثير بمبلغ
تحقيق هذه الأمور في الخارج، أو عدم تحقيقها، فهي تحتوي على شيء يقيني،
لا سبيل إلى الشك فيه. فسواء كنت يقظاً أو نائماً، هنالك حقيقة ثابتة،
وهي ان مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائماً، وان المربع لن يزيد على
أربعة أضلاع أبداً. ان حقائق قد بلغت هذه المرتبة من الوضوح، لا يمكن
ان تكون موضع خطأ، أو عدم يقين.
9.
في الأسباب التي تدفعنا رغم هذا إلى الريبة من حقيقة تلك الأشياء.
مع
ذلك فقد رسخ في ذهني، منذ زمن طويل، معتقد فحواه ان هنالك إلهاً قادراً
على كل شيء، هو الذي خلقني وصنعني على نحو ما أنا موجود. فما يدريني؟
لعله قضى ان لا يكون هناك ارض، ولا سماء، ولا جسم ممتد، ولا شكل، ولا
مقدار، ولا حيز، ودبر مع ذلك ان أحس بهذه الأشياء، جميعاً، فتبدو لي
كائنة على غرار ما أراها؟ ثم لما كنت أرى، أحياناً، كيف ان الآخرين
يغلطون في الأمور، التي يحسبون انهم اعلم الناس بها فما يدريني، لعله
قدر لي ان اغلط، أنا أيضاً، كلما جمعت اثنين وثلاثة، أو أحصيت أضلاع
مربع ما، أو أطلقت حكماً على شيء اسهل من ذلك، ان كان ثمة شيء اسهل؟
لكن اما قيل عن الله انه كريم رحيم؟ لعله لم يرد تضليلي على هذا النحو؟
فإذا كان مما يتنزه عنه الله ان يكون قد خلقني عرضة للخطأ، دائماً،
فمما لا يليق بمقامه ان يأذن بوقوعي في الخطأ أحياناً. واني على يقين
ان هذا لا يقع بإذنه.
10.
إذن لا يوجد شيء غير ممكن ان نشك فيه إلى حد ما.
قد
نعثر على أناس يميلون إلى إنكار وجود اله ذي قدرة كهذه القدرة، اكثر
مما يميلون إلى الاعتقاد بان كل الأشياء الباقية هي عارية من اليقين.
لا نريد الآن ان نعارض هذا الرأي. لنقف بجانبهم مسلّمين معهم ان الذي
قيل هنا عن اله ما هو الا حديث خرافة. ولكن، مهما تكن الوجوه التي
يعتمدون عليها، لتفسير ما وصلتُ إليه من حال وكيان (سواء أعادوهما
إلى القضاء والقدر، أو عزوهما إلى المصادفة، أو أرجعوهما إلى سلسلة
من العلل والمعلولات، أو إلى أي سبب آخر) فان قدرة الصانع، الذي يجعلونه
علة لوجودي تنقص، ما دام الخطأ والضلال نوعاً من أنواع النقص، بقدر
ما انقص أنا فأتعرض للضلال دائماً. ليس عندي ما أجيب عن حججهم. الا
انه لا مناص لي من الاعتراف بان كل الآراء التي حسبتها من قبل حقاً،
أستطيع ان أشك فيها بطريقة ما. يمكنني الآن، ان ارتاب من أي رأي، لا
بطيش ورعونة، وإنما بفضل أدلة ناضجة قوية جداً. لذا ينبغي لي، إذا
أردت الاهتداء إلى أمر ثابت أكيد في العلوم، ان امتنع عن تصديق ما
يمكن الشك فيه، امتناعي عن تصديق ما يتضح فيه الخطأ اتضاحاً شديداً.
11.
في انه لا يكفي ان نبدي هذه الملاحظات، وإنما يجب حفرها في أعماق أذهاننا.
ذلك
لان الفائدة لا تأتي فقط من اعتبار آرائنا القديمة قابلة للشك، بل
أيضاً من افتراضها خاطئة. لا خطر ولا ضلال في إتباع هذا المسلك.
ولكن
لا يكفي ان ابدي هذه الملاحظات، بل ينبغي لي أيضاً ان أوطدها في ذاكرتي،
لأن الآراء القديمة، المألوفة، تعاودني بين الفينة والفنية. ان طول
ألفها لي جعلها تشغل ذهني قسراً، وتتحكم تقريباً بمعتقدي. الا انني
سأحترمها ... ما دمت أراها في واقعها، اعني في انها مدعاة للشك، من
بعض الوجوه، كما ابنته الآن. مع ذلك هي محتملة كثيراً، مما يجعل التصديق
بها أصوب من إنكارها. لذا أكون حكيماً إذا تعمدت موقفاً معاكساً، فاكذب
نفسي، إذ افترض إلى حين ان جميع الآراء باطلة خيالية، ريثما يتيسر
لي ان أوازن بين القديمة والجديدة. وهكذا لا يميل رأي إلى جانب دون
جانب، ولا تسيطر التقاليد الخاطئة على حكمي، فيشتط عن الطريق المستقيم،
الذي يقدر ان يرشدني إلى معرفة الحقيقية. أنا واثق انه لا خطر في إتباع
هذا المسلك، ولا ضلال. مهما أبالغ في الحذر فلن أكون مسرفاً، لأن مطلبي
الآن ليس العمل وإنما التأمل والمعرفة.
12.
ما هي الافتراضات، التي يجب ان نفترضها، وكيف ينبغي لنا ان نستخدمها.
سأفترض
إذن ان لا إلهاً حقاً (الذي هو مصدر الحقيقة الأعلى) بل ان شيطاناً
سيئاً، لا يقل خبثه ومكره عن بأسه، قد استعمل كل ما أوتي من حنكة لتضليلي.
وسأفترض ان السماء، والهواء، والأرض، والألوان، والأشكال، والأصوات،
وسائر الأشياء الخارجية التي نرى، ليست الا أوهاماً وخيالات، يلجأ
إليها الشيطان كي يقنعني. وسأفترض اني خلو من العينين واليدين واللحم
والدم والحواس، التي أتوهم خطأ اني املكها جميعاً. وسأتشبث بهذه الافتراضات
التي، ان لم أتمكن بها من الوصول إلى معرفة أي حقيقة، تدفعني على الأقل
ان أتوقف عن الحكم. لذا سأحذر كثيراً من التسليم بما هو باطل. سأواجه كل الحيل التي يعمد
إليها ذلك المخادع الكبير، حتى لا يتمكن (مهما يكن بأسه ومكره) ان
ينيخنيلشيء
أبداً.
13.
في ان تحقيق هذا المطلب صعب للغاية.
لكن
هذا المطلب شاق كثير العناء. وشيء من الكسل يجرفني، دون شعور مني،
في سياق حياتي العادية. مثلي هنا مثل عبد يتلذذ في المنام بحرية موهومة.
وإذ فطن إلى ان حريته ليست غير أضغاث أحلام، خاف ان يصحو من نومه،
فطاب له ان يمالئ هذه الأوهام اللذيذة، ليطول أمد انخداعه بها. كذلك
حالي: انجرف من تلقاء ذاتي، ودون وعي مني، في تيار آرائي القديمة،
ولا أريد ان أصحو من غفوتي هذه، خشية ان أجد، بعد الراحة الهادئة،
اليقظة الشاقة التي، بدل ان تجلب لي قليلاً من الوضوح والنور في معرفتي
للحقيقة، تبان عاجزة عن تبديد كل ظلمات المصاعب الناشئة.
التأمل
الثاني: في عناصر الأشياء المادية
1.
يجب أن نعيد فحص الأشياء التي يخامرنا أدنى شك فيها، إلى ان نعثر على
شيء ثابت.
غمرني
تأمل البارحة بفيض من الشكوك، لم يعد باستطاعتي ان أمحوها من نفسي،
ولا ان أجد مع ذلك سبيلاً إلى حلها. كأني سقطت فجأة في ماء عميق للغاية،
فهالني الأمر هولاً شديداً، حتى أنني لم اقدر على تثبيت قدمي في القاع،
ولا على العوم لتمكين جسمي فوق سطح الماء. رغم هذا سأبذل طاقتي للمضي
أيضاً في الطريق التي سلكتها البارحة، مبتعداً عن كل ما قد يكون لدي
أدنى شك فيه، كما لو كنت على يقين من انه باطل جداً. سأتابع السير
في هذه الطريق حتى اهتدي إلى شيء ثابت. فإذا لم يتيسر لي ذلك، علمت
علماً أكيداً، على الأقل، انه لا يوجد في العالم شيء ثابت.
2.
وانه لفوز كبير إذا استطعنا ان نعثر على شيء واحد.
وهل
كان أرخميدس يطلب غير نقطة ثابتة، لا تتحرك، لينقل الكرة الأرضية من
مكانها إلى مكان آخر؟ كذلك أنا فانه يحق لي ان أعلل النفس بأكثر الآمال،
إذا أسعدني الحظ وعثرت على شيء ثابت، لا شك فيه.
3.
إذن ينبغي لنا ان نعتبر باطلاً كل ما عرفناه عن طريق الحواس.
سأفترض،
إذن، ان جميع الأشياء التي أرى، باطلة. وسأميل إلى الاعتقاد ان شيئاً
لم يكن، قط، من كل ما تمثله لي ذاكرتي، المليئة بالأغاليط. سأحسب اني
خلو من الحواس. سأحسب ان الجسم، والشكل، والامتداد، والحركة، والمكان،
ان هي الا أوهام نفسي. إذن أي شيء يمكن أن يكون صحيحاً؟ لعل شيئاً
واحداً، لا غير، هو انه لا يوجد في العالم شيء ثابت.
4.
لا نستطيع، ونحن على هذا الشك في كل شيء، أن نشك في أننا موجودون.
ان هذه الجملة "أنا موجود" هي حقة جبراً.
لكن،
ما يدريني، لعل هناك شيئاً آخر لا نستطيع الشك فيه، وهو يختلف عن الأشياء،
التي حكمت منذ قليل أنها غير ثابتة؟ الا يوجد إله ما، أو قوة أخرى
توحي إلى نفسي هذه الخواطر؟ هذا الاعتقاد ليس واجباً. فقد أحدثت تلك
الخواطر من تلقاء نفسي. إذن ألست أنا شيئاً على الأقل؟ لكنني أنكرت،
فيما تقدم، ان يكون لي حس... ان يكون لي جسم. مع ذلك أنا متردد. إذ
ماذا ينتج عن كل هذا؟ هل يبلغ ارتباطي بالجسم، والحواس، مبلغاً لم
يعد بإمكاني ان أكون موجوداً، الا بالجسم والحواس؟ الا انني كنت قد
اقتنعت، قبلاً، انه لا يوجد في العالم شيء، على الإطلاق، لا سماء،
ولا أرض، ولا نفس، ولا أجسام، وبالتالي قد اقتنعت انني لست موجوداً
كذلك؟ كلا. أنا موجود بلا ريب، لأنني اقتنعت، أو لأنني فكرت بشيء،
ولكن، لا أدري، قد يكون هناك مُضِلٌّ شديد القوة، والمكر، يبذل كل
مهاراته لتضليلي دائماً. إذن، ليس من شك في اني موجود، إذا أضلني.
فليضلني ما يشاء. أنه عاجز، أبداً، عن ان يجعلني لا شيء، ما دمت أفكر
انني شيء. من هنا ينبغي لي ان اخلص، وقد رويّت الفكر، وأمعنت النظر
في جميع الأشياء، إلى ان هذه القضية "أنا كائن، أنا موجود"
هي قضية صحيحة جبراً، في كل مرة انطق بها، أو وأتذهنها.
5.
ما دمنا واثقين اننا موجودون، يترتب علينا ان نبحث أي شيء نحن.
الا
انني لا أعرف، بوضوح كاف، أي شيء أنا، الذي ثبت عندي اني كائن. من
اجل هذا يجب، منذ الآن، ان انتبه جيداً كي لا يشتبه الأمر علي، فآخذ
شيئاً على انه أنا، وأضِلُ هكذا عن الصواب، حتى في تلك المعرفة التي
أرى انها اكثر يقيناً، وبداهة، من كل معارفي السابقة.
6.
لذلك يحسن بنا ان نعيد النظر في ما كنا نعتقد به سابقاً.
لذلك
سأعيد النظر الآن، من جديد، في ما كنت اعتقد به، قبل ان تخالجني هذه
الخواطر الأخيرة. سأستبعد من آرائي القديمة، كل ما يمكن ان تزعزعه
أسباب الشك، التي ذكرتها آنفاً، كي لا يبقى الا ما يقينه تام. فماذا
كنت اعتقد؟ كنت اعتقد، صراحة، انني إنسان. ولكن ما هو الإنسان؟ هل
أقول انه حيوان عاقل؟ كلا. إذ يضطرني هذا إلى ان ابحث، بعد ذلك، في
ما هو الحيوان وما هو العاقل، فأنزلق هكذا من سؤال واحد إلى الخوض،
بلا وعي، في أسئلة أخرى اشد صعوبة وتعقيداً. وأنا غير قادر على مضيعة
ما لي من وقت وفراغ في محاولة الكشف عن مثل هذه الصعوبات. أؤثر ان
انظر ههنا في الخواطر، التي ولدها ذهني، والتي استمدها من طبيعتي وحدها،
حين عكفت على البحث في كياني. حسبت، أولاً، ان لي وجهاً، ويدين، وذراعين،
وكل ذلك الجهاز المؤلف من لحم، وعظم، على نحو ما يبدو في جسم الإنسان،
وهو الذي كنت أدل عليه باسم البدن. حسبت أيضاً انني أتغذى، وامشي،
وأحس، وأفكر، ناسباً للنفس جميع هذه الأفعال.
وسواء
بحثت مطولاً في ماهية النفس، أو لم ابحث، فقد كنت أتصورها شيئاً نادراً،
ولطيفاً جداً، كريح، أو شعلة، أو نسيم رقيق للغاية، وقد اندس، وانتشر
في اخشن أعضائي. أما الجسم فما شككت يوماً في طبيعته، بل كنت أظن اني
اعرفه معرفة متميزة. ولو أردت شرحه، وفق المعاني التي كانت في ذهني،
لشرحته على النحو التالي: الجسم هو كل ما يمكن ان يحده شكل. هو كل
ما يمكن ان يتحيز فيحتويه مكان، مقصياً هكذا عنه مطلق جسم آخر. هو
كل ما يمكن ان يحس، اما باللمس، أو البصر، أو السمع، أو الذوق. هو
كل ما يحركه، في اتجاهات عديدة، شيء خارجي، يمسه، ثم يترك أثراً فيه.
ذلك لأنني لن اعتقد يوما، ان القدرة على التحرك من الذات، وعلى الإحساس
والتفكير من الذات، أمور تعود إلى طبيعة الجسم. بالعكس، لقد كان يدهشني
ان أرى مثل هذه القوى حادثة في بعض الأجسام.
7.
في اننا لسنا، من كل ما اعتقدناه قبلاً، سوى بالضبط شيء يفكر.
لكن
أنا من أكون أنا، وقد افترضت الآن وجود من يبذل كل ما أوتي من قوة،
ومهارة في سبيل تضليلي، وهو شديد السطوة، والمكر، والدهاء؟ هل أستطيع
التأكيد انني أملك صفة واحدة، من جميع الصفات، التي نسبتها قبلاً لطبيعة
الجسم؟ لقد فكرت ملياً في الأمر، أجلت ذهني حول هذه الصفات، مثنى،
وثلاث، فلم أجد منها شيئاً، يصح القول بأنه من خصائص نفسي. إذن لا
حاجة إلى تعدادها. ولننتقل إلى صفات النفس. ولنتساءل عما إذا كنت املك
إحداها. أول ما أوردنا من هذه الصفات، هو التغذي والمشي. لكن، إذا
صح ان لا جسم لي، صح ان لا تغذِ لي ولا مشي. ثم أوردنا صفة ثانية من
صفات النفس، هي الإحساس. لكن، لا إحساس بدون جسم، وان اعتقدت فيما
سلف انني أحسست، نائماً، بأشياء كثيرة. ألم يتبين لي، بعد اليقظة،
انني لم أحس بها؟ ثم أوردنا صفة ثالثة، من صفات النفس، هي الفكر. هنا
أجد ان الفكر صفة تخصني. هي وحدها لصيقة بي. أنا موجود. هذا أمر ثابت.
لكن كم من الوقت؟ ما دمت أفكر. إذا انقطعت عن التفكير، انقطعت ربما
عن الوجود، انقطاعاً خالصاً. اسلم الآن جبراً بشيء صحيح. أنا شيء يفكر...
أي أنا روح، أو إدراك، أو عقل. وهي ألفاظ كنت اجهل معناها من قبل.
فأنا، والحالة هذه، شيء صحيح وموجود حقاً. لكن أي شيء أنا هو؟ لقد
قلته. انني شيء يفكر. وماذا بعد؟ هنا استحث خيالي، أيضاً، علني اعثر
على ما هو اكثر من كائن يفكر. جلي اني لست تلك المجموعة من الأعضاء،
التي سميت بدنا. ولست هواء رقيقاً، لطيفاً، منتشراً في جميع تلك الأعضاء.
ولست ريحاً، ولا نسمة، ولا بخاراً ولا شيئاً من كل ما أستطيع ان أتخيل،
وأتصور. ألم افترض أن كل ذلك ليس موجوداً؟ رغم صحة هذا الافتراض، ما
زلت موقناً انني موجود.
8.
في ان كل ما ندركه بواسطة الخيال لا يخص تلك المعرفة التي لدينا عن
ذاتنا.
لكن،
ما يدريني، فقد تكون هذه الأشياء عينها (وأنا افترض انها غير موجودة
لأنني أجهلها) غير مختلفة حقاً عن نفسي التي اعرف. لست ادري. ولا أجادل
الآن في هذا. حسبي ان لا احكم الا على الأشياء التي اعرف. ولقد عرفت
اني موجود. يبقى ان ابحث في الوجود، الذي هو وجودي، أنا العارف اني
موجود. ومن الثابت ان معرفتي لذاتي، بمعناها ذلك، لا تعتمد على الأشياء
التي لم أعرف وجودها بعد، ولا على أي شيء من الأشياء التي أستطيع ان
تصورها بالمخيلة. ان في لفظتي التصور والتخيل، ما ينبهني إلى خطأي،
لأنني أتوهم بالواقع حين أتخيل اني شيء، إذ التخيل تأمل في صورة، وان
تلك الصور (وكل ما يتعلق عموماً بطبيعة الجسم) قد يكون أحلاماً وتخيلات.
وهكذا يتبين لي، عندما أقول " سأستحث خيالي لأعرف ماهيّتي معرفة
أوضح" انني لست اكثر صواباً مني عندما أقول "أنا الآن مستيقظ.
واني أدرك بالبصر شيئاً واقعياً حقيقياً. ولما كنت لا أراه بعد، بوضوح
كاف، فسأنام قصداً لتمثله لي أحلامي بمزيد من الوضوح والبداهة".
إذن لا شيء من كل ما تستطيع مخيلتي ان تحيطني به، اعرفه كتلك المعرفة
التي لدي عن نفسي. علينا، والحالة هذه، ان ننشط الذهن بصرفه عن هذا
التصور، ليتمكن من ان يعرف طبيعته معرفة متميزة كل التميز.
9.
في ما هو الشيء الذي يفكر.
إذن
أي شيء أنا؟ أنا شيء يفكر. وما هو الشيء الذي يفكر؟ هو شيء يشك، ويتذهن،
ويثبت، وينفي، ويريد، ويرفض، ويتخيل أيضاً، ويحس. حقاً ليس بالأمر
القليل ان تكون كل هذه الأشياء من خصائص طبيعتي. ولكن لم لا تكون من
خصائصها؟ الست أنا ذلك الشخص عينه، الذي يشك الآن في كل شيء، على وجه
التقريب؟ وهو، مع هذا، يدرك بعض الأشياء، ويتذهنها، ويؤكد انها الصحيحة
وحدها، وينكر سائر ما عداها، ويريد، ويرغب في ان يعرف غيرها، ويأبى
ان يخدع، ويتخيل أشياء وأشياء، رغم إرادته أحياناً، ويتحسس الكثير
منها أيضاً، بواسطة أعضاء الجسم؟ هل يوجد بين كل هذا ما يعادل في صحته
اليقين بأني كائن موجود، على الدوام، حتى وان كنت نائماً، وكان الذي
منحني الوجود يبذل وسع مهارته في سبيل تضليلي؟ وهل توجد صفة، من هذه
الصفات، يمكن تمييزها من فكري، أو القول انها منفصلة عني؟ بديهي انني
أنا هو الكائن الذي يشك وأنا هو الكائن الذي يدرك. وأنا هو الكائن
الذي يرغب. لا حاجة إلى شيء آخر من اجل إيضاحه. لدي قدرة أيضاً على
التخيل. هذه القدرة (وان كنت قد افترضت، سابقاً، ان كل الأشياء التي
أتخيلها ليست حقيقية) لا تعرى عن الوجود في، كجزء دائم من فكري. وأخيراً،
أنا هو الشخص عينه الذي يحس، أي الذي يدرك أشياء معينة بواسطة الحواس،
ما دمت بالواقع أرى ضوءاً، واسمع دوياً، وأحس بحرارة. إذا قيل ان هذه
المظاهر زائفة، وانني أنام، أجبت بأنه ثابت (على الأقل عندي) اني أرى
ضوءاً، واسمع دوياً، وأحس بحرارة. هذا لا يمكن ان يخرج عن كونه تفكيراً.
من هنا بدأت اعرف أي شيء أنا، بقدر من الوضوح والتمييز، يزيد قليلاُ
عما كنت اعرف من قبل.
10.
ما الذي يحدونا على الاعتقاد اننا نعرف الأشياء الجسمية اكثر مما نعرف
هذا الشيء المفكر.
لكن
لا بد لي أيضاَ من القول انني اعرف، معرفة متميزة، الأشياء الجسمية
التي تتكون صورها بالفكر، وتقع تحت الحواس، اكثر مما اعرف ذلك الجزء
من نفسي، الذي ادري ما هو، والذي لا يقع تحت الخيال. اجل، من الغرابة
جداً ان اشك في وجود أشياء، هي ليست واضحة عندي ولا مختصة بي، ثم أقول
اني اعرفها وافهمها، بشكل أوضح واسهل، مما أعرف وافهم الأشياء الحقيقية
الثابتة، التي هي معروفة لدي ومختصة بي. الا ان الأمر قد انجلى في
نظري. النفس يحلو لها ان تضل السبيل، لأنها تنفر من الانضباط في حدود
الحقيقة. لنطلق لها العنان، إذن، مرة أخرى. ولنترك لها كل الحرية.
ولنفسح لها مجال الإمعان في الأشياء الخارجية.
11.
لننظر في معرفتنا الأشياء الحسية على ضوء مثل قطعة من الشمع.
لنبدأ
الآن بالنظر في الأشياء العادية، التي تتراءى لنا معرفتها انها ايسر
من غيرها، اعني الأجسام الملموسة المنظورة. ولا اقصد كل الأجسام. هذه
المفاهيم العامة كثيراً ما تستبهم علينا. لنقتصر منها على جسم معين
ننظر فيه. لنأخذ، مثلاً، هذه القطعة من الشمع، ولم يمض على استخراجها
من القفير غير زمن قصير. هذه القطعة لم تفقد بعد حلاوة العسل الذي
تحتويه. ولم تفقد كل أريج الزهور التي اقتطفت منها. فلونها، وحجمها،
وشكلها، أشياء ظاهرة للعين. هي جامدة، باردة تتناول باليد. إذا نقرت
عليها خرج منها صوت. وهكذا نجد فيها، جملة، جميع الأشياء التي تجعلنا
نعرف بها الجسم معرفة متميزة.
12.
في ان كل ما نعتقد اننا نعرفه بتمييز في هذه القطعة من الشمع لا يقع
تحت الحواس.
لكن،
بينما أنا أتكلم، إذا بها توضع قرب النار، فيتطاير ما بقي من طمعها،
وتتلاشى رائحتها، ويتغير لونها، ويذهب شكلها، ويزيد حجمها، إذ تصير
من السوائل، وتسخن حتى يكاد لمسها يصعب، فلا ينبعث منها صوت، مهما
تنقر عليها. أتزال الشمعة هي ذاتها بعد هذا التغيير؟ الحق انها باقية.
ولا أحد يستطيع ان ينكر ذلك أو يحكم حكماً مخالفاً. إذن ما هو الشيء،
الذي كنا نعرفه، في قطعة الشمع، معرفة متميزة؟ لا شيء، يقيناً، من
كل ما لاحظته فيها، عن طريق الحواس، ما دام الذي وقع منها تحت حواس
الذوق، أو الشم، أو البصر، أو اللمس، أو السمع، قد تغير كله، في حين
ان الشمعة ذاتها باقية. قد يكون الأمر كما أراها الآن. اعني ان هذه
الشمعة ليست تلك الحلاوة التي في العسل، ولا ذلك الأريج الزكي الذي
يفوح من الأزهار، ولا ذلك البياض، ولا ذلك الشكل، ولا ذلك الصوت. وإنما
هي جسم كان يلوح لي، منذ قليل، محسوساً به في هذه الصور، وهو الآن
محسوس به في صور أخرى. ولكن ما هو، بالتدقيق، الشيء الذي أتخيله، حين
اتذهن الشمعة على هذا النحو؟ فلننظر في الأمر بإمعان، ولنستبعد كل
ما ليس من خواص الشمعة، كي نرى ما يتبقى بعد ذلك. الذي يتبقى منها
حقاً هو شيء ممتد لين متحرك. ولكن ما معنى اللين والمتحرك؟ أليس معناه
انني أتخيل قطعة الشمع المستديرة، قابلة لأن تصير مربعة أو مثلثة؟
الأمر ليس كذلك بته: لأن الشمعة قابلة لعدد لا يحصى من هذه التغييرات،
التي لن أدركها بخيالي. وهو دليل إلى ان تذهني لها ليس ثمرة المخيلة.
13.
في اننا نعرف، بالإدراك القطعة من الشمع.
فما
هو ذلك الامتداد إذن؟ ألا أجهله أيضاً؟ انه يزيد فاكثر عندما ترتفع
حرارتها. فأنا لا اتذهن، تذهناً واضحاً ومطابقاَ للحقيقة، ماهية الشمعة،
إذا كنت لا افترض انها تأخذ، وفقاً للامتداد، أنحاء شتى لم تخطر قط
بخيالي. إذن لا بد من القول بان خيالي عاجز عن ان يعرف ماهية هذه القطعة
من الشمع. الذي يعرفها هو إدراكي وحده. أتحدث خاصة عن هذه القطعة من
الشمع، إذ ان أمر الشمع بصورة عامة هو أيضاً اكثر بداهة. ولكن ما هي
قطعة الشمع تلك، التي لا يمكن تذهنها الا بالإدراك أو بالروح؟ يقيناً
انها ذاتها التي أراها، وألمسها، وأتخيلها، هي ذاتها التي عرفتها منذ
البداية. غير ان ما يجب إيضاحه هو ان إدراكي إياها لم يعد إبصاراً،
أو تلمساً، أو تخيلاً. هو ليس شيئاً من ذلك، مطلقاً، وان كان قد بدا
انه كذلك من قبل. وإنما هو لمعة من لمعات الروح، قد تكون ناقصة ومبهمة
كما بدت سابقاً، أو واضحة متميزة كما هي الآن، وفقاً لدرجة انتباهي
إلى العناصر، التي تشتمل عليها الشمعة والتي تتألف منها.
14.
لِمَ يصعب الإجماع على هذه الحقيقة؟
لا
اعجب كثيراً حين ألاحظ ما في إدراكي من ضعف، وميل، يجعلانه عرضاً للخطأ،
عن غير وعي. ذلك لأن الألفاظ تصدني، وان كنت أجيل هذا كله في ذهني،
دون ان أتكلم. العبارات الجارية تكاد تخدعني. فنحن نقول بأننا "نرى"
الشمعة ذاتها حين تكون أمامنا، ولا نقول بأن "نحكم" عليها
هي عينها، لأن لها لون الشمعة ذاته وشكلها ذاته. لذا نكاد نستنتج اننا
نعرف الشمعة بالعينين، لا بمعرفة الروح وحدها. لو نظرت مصادفة من النافذة،
وشاهدت رجالاً يسيرون في الشارع، لقلت عند رؤيتي لهم اني أرى رجالاً
بعينهم، كما أقول اني أرى شمعة بعينها. ولكن هل أرى بالواقع من النافذة
قبعات، ومعاطف، قد تكون أغطية لآلات صناعية تحركها لوالب؟ مع ذلك احكم
انهم ناس. إذن أنا أدرك، بمحض ما في ذهني من قوة الحكم، ما كنت احسب
اني أراه بعيني.
15.
... التي تثبت ان لنا روحاً؟
ينبغي
لمن يحاول الارتفاع إلى معرفة، تجاوز مرتبة العامة، ان لا يلتمس في
صيغ الكلام، التي ابتدعتها تلك العامة، الا مواطن شك. ولكن أؤثر ان
اضرب صفحاً عن ذلك. الأفضل ان انظر هل كان تذهني لماهية الشمعة (حين
أدركتها بالحس، وظننت اني اعرفها بطريق الحواس الخارجية، أو على الأقل
بالحس المشترك، كما يقولون، أي بالمخيلة) هل كان تذهني اكثر بداهة
وكمالاً من تذهني لها، الآن، بعد ان بذلت عناية اشد في البحث عن ماهيتها،
وعن السبيل إلى معرفتها؟ من السخف،حقاً ان نضع هذا الأمر موضع الشك.
إذ ماذا كان في إحساسي الأول من تمييز؟ ماذا كان فيه ما لا نستطيع
ان نجده في حس اقل الحيوانات؟ لكن حين أميز الشمعة من صورها الخارجية،
وأتأملها عارية، كما لو كنت قد جردت عنها ثيابها، فمن المحقق اني لا
أتمكن، وان وقع بعض الخطأ في حكمي، ان اتذهنها على هذا النحو دون الاستناد
إلى روح إنسانية.
16.
في اننا نعرف هذه الروح اكثر مما نعرف أي شيء آخر.
لكن
ما عساي أقول أخيراً عن هذا الذهن، أي عن ذاتي، ما دمت لا اسلم حتى
الآن ان فيها شيئاً آخر غير الروح؟ اجل، ماذا تكون الأنا، التي تتذهن
قطعة الشمع، بمثل هذا الوضوح والتمييز؟ إذا كنت احكم بأن الشمعة كائنة
أو موجودة، لأنني أراها؟ قد لا يكون شمعاً هذا الذي أراه. وقد لا يكون
بي عينان ابصر بهما شيئاً. لكن لا يمكنني، أنا الذي أفكر، ان لا أكون
شيئاً، حين أرى أو أظن اني أرى (لا فرق). كذلك إذا حكمت بوجودها، عن
طريق خيالي، أو أية علة أخرى، كائنة ما كانت، فأنا استنتج دائماً انني
موجود. والذي أقوله عن الشمعة، الآن، يجري حكمه على كل الأشياء الخارجية،
الواقعة خارج نفسي.
17.
في ان الأشياء التي تتعلق بالجسم، أي الحسية جداً، لا تستحق ان يقام
لها وزن.
فإذا
كان مفهوم الشمعة، أو إحساسي بها، قد وضح اكثر من قبل، وانجلى، ليس
فقط بفضل النظر، واللمس، وإنما بفضل أسباب عديدة أخرى، نقحت هذا المفهوم
لدي، فكم ينبغي القول بالأحرى، انني اعرف ذاتي الآن معرفة اشد بداهة،
ووضوحاً، وتميزاً، ما دامت كل الأسباب (التي تساعد على ان نعرف، ونتذهن،
طبيعة الشمعة أو مطلق جسم آخر) تثبت لي اكثر أيضاً طبيعة روحي. وفي
الذهن أشياء عديدة أخرى تسهم في إيضاح طبيعة الروح، عدا الأسباب المتعلقة
بالجسم، كتلك التي أشرت إليها، والتي لا تستحق الذكر حتى.
18.
إذن ليس أهون من ان نعرف ذواتنا.
وأخيراً
هاأنذا أعود، من حيث لا اشعر، إلى ما كنت أريد. لقد تبين لي، الآن،
ان الأجسام ذاتها لا تُعرف حقاً بالحواس، أو بالقوة المخيلة، وإنما
بالإدراك وحده. هي لا تُعرف لأنها تُرى، وتُلمس، بل لأنها تُفهم، أو
تُدرك بالذهن. وهكذا اتضح لي انه ما من شيء هو عندي أيسر وأجلى معرفة
من نفسي. لكن ليس هيناً ان نتخلص، بمثل هذه السرعة، من رأي ألفناه
طويلاً. لذا يجدر بي ان اقف وقفة قصيرة حول ذلك الموضوع، حتى أتمكن
بالتأمل الممعن ان ارسخ، في ذاكرتي، هذه المعرفة الجديدة.
من
التأمل الثالث: في العالم المرئي
يجب أن نعيد فحص الأشياء التي يخامرنا أدنى شك فيها، إلى ان نعثر على
شيء ثابت.
غمرني
تأمل البارحة بفيض من الشكوك، لم يعد باستطاعتي ان أمحوها من نفسي،
ولا ان أجد مع ذلك سبيلاً إلى حلها. كأني سقطت فجأة في ماء عميق للغاية،
فهالني الأمر هولاً شديداً، حتى أنني لم اقدر على تثبيت قدمي في القاع،
ولا على العوم لتمكين جسمي فوق سطح الماء. رغم هذا سأبذل طاقتي للمضي
أيضاً في الطريق التي سلكتها البارحة، مبتعداً عن كل ما قد يكون لدي
أدنى شك فيه، كما لو كنت على يقين من انه باطل جداً. سأتابع السير
في هذه الطريق حتى اهتدي إلى شيء ثابت. فإذا لم يتيسر لي ذلك، علمت
علماً أكيداً، على الأقل، انه لا يوجد في العالم شيء ثابت.
2.
وانه لفوز كبير إذا استطعنا ان نعثر على شيء واحد.
وهل
كان أرخميدس يطلب غير نقطة ثابتة، لا تتحرك، لينقل الكرة الأرضية من
مكانها إلى مكان آخر؟ كذلك أنا فانه يحق لي ان أعلل النفس بأكثر الآمال،
إذا أسعدني الحظ وعثرت على شيء ثابت، لا شك فيه.
3.
إذن ينبغي لنا ان نعتبر باطلاً كل ما عرفناه عن طريق الحواس.
سأفترض،
إذن، ان جميع الأشياء التي أرى، باطلة. وسأميل إلى الاعتقاد ان شيئاً
لم يكن، قط، من كل ما تمثله لي ذاكرتي، المليئة بالأغاليط. سأحسب اني
خلو من الحواس. سأحسب ان الجسم، والشكل، والامتداد، والحركة، والمكان،
ان هي الا أوهام نفسي. إذن أي شيء يمكن أن يكون صحيحاً؟ لعل شيئاً
واحداً، لا غير، هو انه لا يوجد في العالم شيء ثابت.
4.
لا نستطيع، ونحن على هذا الشك في كل شيء، أن نشك في أننا موجودون.
ان هذه الجملة "أنا موجود" هي حقة جبراً.
لكن،
ما يدريني، لعل هناك شيئاً آخر لا نستطيع الشك فيه، وهو يختلف عن الأشياء،
التي حكمت منذ قليل أنها غير ثابتة؟ الا يوجد إله ما، أو قوة أخرى
توحي إلى نفسي هذه الخواطر؟ هذا الاعتقاد ليس واجباً. فقد أحدثت تلك
الخواطر من تلقاء نفسي. إذن ألست أنا شيئاً على الأقل؟ لكنني أنكرت،
فيما تقدم، ان يكون لي حس... ان يكون لي جسم. مع ذلك أنا متردد. إذ
ماذا ينتج عن كل هذا؟ هل يبلغ ارتباطي بالجسم، والحواس، مبلغاً لم
يعد بإمكاني ان أكون موجوداً، الا بالجسم والحواس؟ الا انني كنت قد
اقتنعت، قبلاً، انه لا يوجد في العالم شيء، على الإطلاق، لا سماء،
ولا أرض، ولا نفس، ولا أجسام، وبالتالي قد اقتنعت انني لست موجوداً
كذلك؟ كلا. أنا موجود بلا ريب، لأنني اقتنعت، أو لأنني فكرت بشيء،
ولكن، لا أدري، قد يكون هناك مُضِلٌّ شديد القوة، والمكر، يبذل كل
مهاراته لتضليلي دائماً. إذن، ليس من شك في اني موجود، إذا أضلني.
فليضلني ما يشاء. أنه عاجز، أبداً، عن ان يجعلني لا شيء، ما دمت أفكر
انني شيء. من هنا ينبغي لي ان اخلص، وقد رويّت الفكر، وأمعنت النظر
في جميع الأشياء، إلى ان هذه القضية "أنا كائن، أنا موجود"
هي قضية صحيحة جبراً، في كل مرة انطق بها، أو وأتذهنها.
5.
ما دمنا واثقين اننا موجودون، يترتب علينا ان نبحث أي شيء نحن.
الا
انني لا أعرف، بوضوح كاف، أي شيء أنا، الذي ثبت عندي اني كائن. من
اجل هذا يجب، منذ الآن، ان انتبه جيداً كي لا يشتبه الأمر علي، فآخذ
شيئاً على انه أنا، وأضِلُ هكذا عن الصواب، حتى في تلك المعرفة التي
أرى انها اكثر يقيناً، وبداهة، من كل معارفي السابقة.
6.
لذلك يحسن بنا ان نعيد النظر في ما كنا نعتقد به سابقاً.
لذلك
سأعيد النظر الآن، من جديد، في ما كنت اعتقد به، قبل ان تخالجني هذه
الخواطر الأخيرة. سأستبعد من آرائي القديمة، كل ما يمكن ان تزعزعه
أسباب الشك، التي ذكرتها آنفاً، كي لا يبقى الا ما يقينه تام. فماذا
كنت اعتقد؟ كنت اعتقد، صراحة، انني إنسان. ولكن ما هو الإنسان؟ هل
أقول انه حيوان عاقل؟ كلا. إذ يضطرني هذا إلى ان ابحث، بعد ذلك، في
ما هو الحيوان وما هو العاقل، فأنزلق هكذا من سؤال واحد إلى الخوض،
بلا وعي، في أسئلة أخرى اشد صعوبة وتعقيداً. وأنا غير قادر على مضيعة
ما لي من وقت وفراغ في محاولة الكشف عن مثل هذه الصعوبات. أؤثر ان
انظر ههنا في الخواطر، التي ولدها ذهني، والتي استمدها من طبيعتي وحدها،
حين عكفت على البحث في كياني. حسبت، أولاً، ان لي وجهاً، ويدين، وذراعين،
وكل ذلك الجهاز المؤلف من لحم، وعظم، على نحو ما يبدو في جسم الإنسان،
وهو الذي كنت أدل عليه باسم البدن. حسبت أيضاً انني أتغذى، وامشي،
وأحس، وأفكر، ناسباً للنفس جميع هذه الأفعال.
وسواء
بحثت مطولاً في ماهية النفس، أو لم ابحث، فقد كنت أتصورها شيئاً نادراً،
ولطيفاً جداً، كريح، أو شعلة، أو نسيم رقيق للغاية، وقد اندس، وانتشر
في اخشن أعضائي. أما الجسم فما شككت يوماً في طبيعته، بل كنت أظن اني
اعرفه معرفة متميزة. ولو أردت شرحه، وفق المعاني التي كانت في ذهني،
لشرحته على النحو التالي: الجسم هو كل ما يمكن ان يحده شكل. هو كل
ما يمكن ان يتحيز فيحتويه مكان، مقصياً هكذا عنه مطلق جسم آخر. هو
كل ما يمكن ان يحس، اما باللمس، أو البصر، أو السمع، أو الذوق. هو
كل ما يحركه، في اتجاهات عديدة، شيء خارجي، يمسه، ثم يترك أثراً فيه.
ذلك لأنني لن اعتقد يوما، ان القدرة على التحرك من الذات، وعلى الإحساس
والتفكير من الذات، أمور تعود إلى طبيعة الجسم. بالعكس، لقد كان يدهشني
ان أرى مثل هذه القوى حادثة في بعض الأجسام.
7.
في اننا لسنا، من كل ما اعتقدناه قبلاً، سوى بالضبط شيء يفكر.
لكن
أنا من أكون أنا، وقد افترضت الآن وجود من يبذل كل ما أوتي من قوة،
ومهارة في سبيل تضليلي، وهو شديد السطوة، والمكر، والدهاء؟ هل أستطيع
التأكيد انني أملك صفة واحدة، من جميع الصفات، التي نسبتها قبلاً لطبيعة
الجسم؟ لقد فكرت ملياً في الأمر، أجلت ذهني حول هذه الصفات، مثنى،
وثلاث، فلم أجد منها شيئاً، يصح القول بأنه من خصائص نفسي. إذن لا
حاجة إلى تعدادها. ولننتقل إلى صفات النفس. ولنتساءل عما إذا كنت املك
إحداها. أول ما أوردنا من هذه الصفات، هو التغذي والمشي. لكن، إذا
صح ان لا جسم لي، صح ان لا تغذِ لي ولا مشي. ثم أوردنا صفة ثانية من
صفات النفس، هي الإحساس. لكن، لا إحساس بدون جسم، وان اعتقدت فيما
سلف انني أحسست، نائماً، بأشياء كثيرة. ألم يتبين لي، بعد اليقظة،
انني لم أحس بها؟ ثم أوردنا صفة ثالثة، من صفات النفس، هي الفكر. هنا
أجد ان الفكر صفة تخصني. هي وحدها لصيقة بي. أنا موجود. هذا أمر ثابت.
لكن كم من الوقت؟ ما دمت أفكر. إذا انقطعت عن التفكير، انقطعت ربما
عن الوجود، انقطاعاً خالصاً. اسلم الآن جبراً بشيء صحيح. أنا شيء يفكر...
أي أنا روح، أو إدراك، أو عقل. وهي ألفاظ كنت اجهل معناها من قبل.
فأنا، والحالة هذه، شيء صحيح وموجود حقاً. لكن أي شيء أنا هو؟ لقد
قلته. انني شيء يفكر. وماذا بعد؟ هنا استحث خيالي، أيضاً، علني اعثر
على ما هو اكثر من كائن يفكر. جلي اني لست تلك المجموعة من الأعضاء،
التي سميت بدنا. ولست هواء رقيقاً، لطيفاً، منتشراً في جميع تلك الأعضاء.
ولست ريحاً، ولا نسمة، ولا بخاراً ولا شيئاً من كل ما أستطيع ان أتخيل،
وأتصور. ألم افترض أن كل ذلك ليس موجوداً؟ رغم صحة هذا الافتراض، ما
زلت موقناً انني موجود.
8.
في ان كل ما ندركه بواسطة الخيال لا يخص تلك المعرفة التي لدينا عن
ذاتنا.
لكن،
ما يدريني، فقد تكون هذه الأشياء عينها (وأنا افترض انها غير موجودة
لأنني أجهلها) غير مختلفة حقاً عن نفسي التي اعرف. لست ادري. ولا أجادل
الآن في هذا. حسبي ان لا احكم الا على الأشياء التي اعرف. ولقد عرفت
اني موجود. يبقى ان ابحث في الوجود، الذي هو وجودي، أنا العارف اني
موجود. ومن الثابت ان معرفتي لذاتي، بمعناها ذلك، لا تعتمد على الأشياء
التي لم أعرف وجودها بعد، ولا على أي شيء من الأشياء التي أستطيع ان
تصورها بالمخيلة. ان في لفظتي التصور والتخيل، ما ينبهني إلى خطأي،
لأنني أتوهم بالواقع حين أتخيل اني شيء، إذ التخيل تأمل في صورة، وان
تلك الصور (وكل ما يتعلق عموماً بطبيعة الجسم) قد يكون أحلاماً وتخيلات.
وهكذا يتبين لي، عندما أقول " سأستحث خيالي لأعرف ماهيّتي معرفة
أوضح" انني لست اكثر صواباً مني عندما أقول "أنا الآن مستيقظ.
واني أدرك بالبصر شيئاً واقعياً حقيقياً. ولما كنت لا أراه بعد، بوضوح
كاف، فسأنام قصداً لتمثله لي أحلامي بمزيد من الوضوح والبداهة".
إذن لا شيء من كل ما تستطيع مخيلتي ان تحيطني به، اعرفه كتلك المعرفة
التي لدي عن نفسي. علينا، والحالة هذه، ان ننشط الذهن بصرفه عن هذا
التصور، ليتمكن من ان يعرف طبيعته معرفة متميزة كل التميز.
9.
في ما هو الشيء الذي يفكر.
إذن
أي شيء أنا؟ أنا شيء يفكر. وما هو الشيء الذي يفكر؟ هو شيء يشك، ويتذهن،
ويثبت، وينفي، ويريد، ويرفض، ويتخيل أيضاً، ويحس. حقاً ليس بالأمر
القليل ان تكون كل هذه الأشياء من خصائص طبيعتي. ولكن لم لا تكون من
خصائصها؟ الست أنا ذلك الشخص عينه، الذي يشك الآن في كل شيء، على وجه
التقريب؟ وهو، مع هذا، يدرك بعض الأشياء، ويتذهنها، ويؤكد انها الصحيحة
وحدها، وينكر سائر ما عداها، ويريد، ويرغب في ان يعرف غيرها، ويأبى
ان يخدع، ويتخيل أشياء وأشياء، رغم إرادته أحياناً، ويتحسس الكثير
منها أيضاً، بواسطة أعضاء الجسم؟ هل يوجد بين كل هذا ما يعادل في صحته
اليقين بأني كائن موجود، على الدوام، حتى وان كنت نائماً، وكان الذي
منحني الوجود يبذل وسع مهارته في سبيل تضليلي؟ وهل توجد صفة، من هذه
الصفات، يمكن تمييزها من فكري، أو القول انها منفصلة عني؟ بديهي انني
أنا هو الكائن الذي يشك وأنا هو الكائن الذي يدرك. وأنا هو الكائن
الذي يرغب. لا حاجة إلى شيء آخر من اجل إيضاحه. لدي قدرة أيضاً على
التخيل. هذه القدرة (وان كنت قد افترضت، سابقاً، ان كل الأشياء التي
أتخيلها ليست حقيقية) لا تعرى عن الوجود في، كجزء دائم من فكري. وأخيراً،
أنا هو الشخص عينه الذي يحس، أي الذي يدرك أشياء معينة بواسطة الحواس،
ما دمت بالواقع أرى ضوءاً، واسمع دوياً، وأحس بحرارة. إذا قيل ان هذه
المظاهر زائفة، وانني أنام، أجبت بأنه ثابت (على الأقل عندي) اني أرى
ضوءاً، واسمع دوياً، وأحس بحرارة. هذا لا يمكن ان يخرج عن كونه تفكيراً.
من هنا بدأت اعرف أي شيء أنا، بقدر من الوضوح والتمييز، يزيد قليلاُ
عما كنت اعرف من قبل.
10.
ما الذي يحدونا على الاعتقاد اننا نعرف الأشياء الجسمية اكثر مما نعرف
هذا الشيء المفكر.
لكن
لا بد لي أيضاَ من القول انني اعرف، معرفة متميزة، الأشياء الجسمية
التي تتكون صورها بالفكر، وتقع تحت الحواس، اكثر مما اعرف ذلك الجزء
من نفسي، الذي ادري ما هو، والذي لا يقع تحت الخيال. اجل، من الغرابة
جداً ان اشك في وجود أشياء، هي ليست واضحة عندي ولا مختصة بي، ثم أقول
اني اعرفها وافهمها، بشكل أوضح واسهل، مما أعرف وافهم الأشياء الحقيقية
الثابتة، التي هي معروفة لدي ومختصة بي. الا ان الأمر قد انجلى في
نظري. النفس يحلو لها ان تضل السبيل، لأنها تنفر من الانضباط في حدود
الحقيقة. لنطلق لها العنان، إذن، مرة أخرى. ولنترك لها كل الحرية.
ولنفسح لها مجال الإمعان في الأشياء الخارجية.
11.
لننظر في معرفتنا الأشياء الحسية على ضوء مثل قطعة من الشمع.
لنبدأ
الآن بالنظر في الأشياء العادية، التي تتراءى لنا معرفتها انها ايسر
من غيرها، اعني الأجسام الملموسة المنظورة. ولا اقصد كل الأجسام. هذه
المفاهيم العامة كثيراً ما تستبهم علينا. لنقتصر منها على جسم معين
ننظر فيه. لنأخذ، مثلاً، هذه القطعة من الشمع، ولم يمض على استخراجها
من القفير غير زمن قصير. هذه القطعة لم تفقد بعد حلاوة العسل الذي
تحتويه. ولم تفقد كل أريج الزهور التي اقتطفت منها. فلونها، وحجمها،
وشكلها، أشياء ظاهرة للعين. هي جامدة، باردة تتناول باليد. إذا نقرت
عليها خرج منها صوت. وهكذا نجد فيها، جملة، جميع الأشياء التي تجعلنا
نعرف بها الجسم معرفة متميزة.
12.
في ان كل ما نعتقد اننا نعرفه بتمييز في هذه القطعة من الشمع لا يقع
تحت الحواس.
لكن،
بينما أنا أتكلم، إذا بها توضع قرب النار، فيتطاير ما بقي من طمعها،
وتتلاشى رائحتها، ويتغير لونها، ويذهب شكلها، ويزيد حجمها، إذ تصير
من السوائل، وتسخن حتى يكاد لمسها يصعب، فلا ينبعث منها صوت، مهما
تنقر عليها. أتزال الشمعة هي ذاتها بعد هذا التغيير؟ الحق انها باقية.
ولا أحد يستطيع ان ينكر ذلك أو يحكم حكماً مخالفاً. إذن ما هو الشيء،
الذي كنا نعرفه، في قطعة الشمع، معرفة متميزة؟ لا شيء، يقيناً، من
كل ما لاحظته فيها، عن طريق الحواس، ما دام الذي وقع منها تحت حواس
الذوق، أو الشم، أو البصر، أو اللمس، أو السمع، قد تغير كله، في حين
ان الشمعة ذاتها باقية. قد يكون الأمر كما أراها الآن. اعني ان هذه
الشمعة ليست تلك الحلاوة التي في العسل، ولا ذلك الأريج الزكي الذي
يفوح من الأزهار، ولا ذلك البياض، ولا ذلك الشكل، ولا ذلك الصوت. وإنما
هي جسم كان يلوح لي، منذ قليل، محسوساً به في هذه الصور، وهو الآن
محسوس به في صور أخرى. ولكن ما هو، بالتدقيق، الشيء الذي أتخيله، حين
اتذهن الشمعة على هذا النحو؟ فلننظر في الأمر بإمعان، ولنستبعد كل
ما ليس من خواص الشمعة، كي نرى ما يتبقى بعد ذلك. الذي يتبقى منها
حقاً هو شيء ممتد لين متحرك. ولكن ما معنى اللين والمتحرك؟ أليس معناه
انني أتخيل قطعة الشمع المستديرة، قابلة لأن تصير مربعة أو مثلثة؟
الأمر ليس كذلك بته: لأن الشمعة قابلة لعدد لا يحصى من هذه التغييرات،
التي لن أدركها بخيالي. وهو دليل إلى ان تذهني لها ليس ثمرة المخيلة.
13.
في اننا نعرف، بالإدراك القطعة من الشمع.
فما
هو ذلك الامتداد إذن؟ ألا أجهله أيضاً؟ انه يزيد فاكثر عندما ترتفع
حرارتها. فأنا لا اتذهن، تذهناً واضحاً ومطابقاَ للحقيقة، ماهية الشمعة،
إذا كنت لا افترض انها تأخذ، وفقاً للامتداد، أنحاء شتى لم تخطر قط
بخيالي. إذن لا بد من القول بان خيالي عاجز عن ان يعرف ماهية هذه القطعة
من الشمع. الذي يعرفها هو إدراكي وحده. أتحدث خاصة عن هذه القطعة من
الشمع، إذ ان أمر الشمع بصورة عامة هو أيضاً اكثر بداهة. ولكن ما هي
قطعة الشمع تلك، التي لا يمكن تذهنها الا بالإدراك أو بالروح؟ يقيناً
انها ذاتها التي أراها، وألمسها، وأتخيلها، هي ذاتها التي عرفتها منذ
البداية. غير ان ما يجب إيضاحه هو ان إدراكي إياها لم يعد إبصاراً،
أو تلمساً، أو تخيلاً. هو ليس شيئاً من ذلك، مطلقاً، وان كان قد بدا
انه كذلك من قبل. وإنما هو لمعة من لمعات الروح، قد تكون ناقصة ومبهمة
كما بدت سابقاً، أو واضحة متميزة كما هي الآن، وفقاً لدرجة انتباهي
إلى العناصر، التي تشتمل عليها الشمعة والتي تتألف منها.
14.
لِمَ يصعب الإجماع على هذه الحقيقة؟
لا
اعجب كثيراً حين ألاحظ ما في إدراكي من ضعف، وميل، يجعلانه عرضاً للخطأ،
عن غير وعي. ذلك لأن الألفاظ تصدني، وان كنت أجيل هذا كله في ذهني،
دون ان أتكلم. العبارات الجارية تكاد تخدعني. فنحن نقول بأننا "نرى"
الشمعة ذاتها حين تكون أمامنا، ولا نقول بأن "نحكم" عليها
هي عينها، لأن لها لون الشمعة ذاته وشكلها ذاته. لذا نكاد نستنتج اننا
نعرف الشمعة بالعينين، لا بمعرفة الروح وحدها. لو نظرت مصادفة من النافذة،
وشاهدت رجالاً يسيرون في الشارع، لقلت عند رؤيتي لهم اني أرى رجالاً
بعينهم، كما أقول اني أرى شمعة بعينها. ولكن هل أرى بالواقع من النافذة
قبعات، ومعاطف، قد تكون أغطية لآلات صناعية تحركها لوالب؟ مع ذلك احكم
انهم ناس. إذن أنا أدرك، بمحض ما في ذهني من قوة الحكم، ما كنت احسب
اني أراه بعيني.
15.
... التي تثبت ان لنا روحاً؟
ينبغي
لمن يحاول الارتفاع إلى معرفة، تجاوز مرتبة العامة، ان لا يلتمس في
صيغ الكلام، التي ابتدعتها تلك العامة، الا مواطن شك. ولكن أؤثر ان
اضرب صفحاً عن ذلك. الأفضل ان انظر هل كان تذهني لماهية الشمعة (حين
أدركتها بالحس، وظننت اني اعرفها بطريق الحواس الخارجية، أو على الأقل
بالحس المشترك، كما يقولون، أي بالمخيلة) هل كان تذهني اكثر بداهة
وكمالاً من تذهني لها، الآن، بعد ان بذلت عناية اشد في البحث عن ماهيتها،
وعن السبيل إلى معرفتها؟ من السخف،حقاً ان نضع هذا الأمر موضع الشك.
إذ ماذا كان في إحساسي الأول من تمييز؟ ماذا كان فيه ما لا نستطيع
ان نجده في حس اقل الحيوانات؟ لكن حين أميز الشمعة من صورها الخارجية،
وأتأملها عارية، كما لو كنت قد جردت عنها ثيابها، فمن المحقق اني لا
أتمكن، وان وقع بعض الخطأ في حكمي، ان اتذهنها على هذا النحو دون الاستناد
إلى روح إنسانية.
16.
في اننا نعرف هذه الروح اكثر مما نعرف أي شيء آخر.
لكن
ما عساي أقول أخيراً عن هذا الذهن، أي عن ذاتي، ما دمت لا اسلم حتى
الآن ان فيها شيئاً آخر غير الروح؟ اجل، ماذا تكون الأنا، التي تتذهن
قطعة الشمع، بمثل هذا الوضوح والتمييز؟ إذا كنت احكم بأن الشمعة كائنة
أو موجودة، لأنني أراها؟ قد لا يكون شمعاً هذا الذي أراه. وقد لا يكون
بي عينان ابصر بهما شيئاً. لكن لا يمكنني، أنا الذي أفكر، ان لا أكون
شيئاً، حين أرى أو أظن اني أرى (لا فرق). كذلك إذا حكمت بوجودها، عن
طريق خيالي، أو أية علة أخرى، كائنة ما كانت، فأنا استنتج دائماً انني
موجود. والذي أقوله عن الشمعة، الآن، يجري حكمه على كل الأشياء الخارجية،
الواقعة خارج نفسي.
17.
في ان الأشياء التي تتعلق بالجسم، أي الحسية جداً، لا تستحق ان يقام
لها وزن.
فإذا
كان مفهوم الشمعة، أو إحساسي بها، قد وضح اكثر من قبل، وانجلى، ليس
فقط بفضل النظر، واللمس، وإنما بفضل أسباب عديدة أخرى، نقحت هذا المفهوم
لدي، فكم ينبغي القول بالأحرى، انني اعرف ذاتي الآن معرفة اشد بداهة،
ووضوحاً، وتميزاً، ما دامت كل الأسباب (التي تساعد على ان نعرف، ونتذهن،
طبيعة الشمعة أو مطلق جسم آخر) تثبت لي اكثر أيضاً طبيعة روحي. وفي
الذهن أشياء عديدة أخرى تسهم في إيضاح طبيعة الروح، عدا الأسباب المتعلقة
بالجسم، كتلك التي أشرت إليها، والتي لا تستحق الذكر حتى.
18.
إذن ليس أهون من ان نعرف ذواتنا.
وأخيراً
هاأنذا أعود، من حيث لا اشعر، إلى ما كنت أريد. لقد تبين لي، الآن،
ان الأجسام ذاتها لا تُعرف حقاً بالحواس، أو بالقوة المخيلة، وإنما
بالإدراك وحده. هي لا تُعرف لأنها تُرى، وتُلمس، بل لأنها تُفهم، أو
تُدرك بالذهن. وهكذا اتضح لي انه ما من شيء هو عندي أيسر وأجلى معرفة
من نفسي. لكن ليس هيناً ان نتخلص، بمثل هذه السرعة، من رأي ألفناه
طويلاً. لذا يجدر بي ان اقف وقفة قصيرة حول ذلك الموضوع، حتى أتمكن
بالتأمل الممعن ان ارسخ، في ذاكرتي، هذه المعرفة الجديدة.
من
التأمل الثالث: في العالم المرئي
17.
في ان الفكر، الذي هو جوهر الذهن، يتميز حقاً من الجسم.
أولاً،
لما كنت اعرف ان جميع الأشياء، التي اتذهنها بوضوح، وتمييز، يمكن لله
ان يوجدها على نحو ما اتذهنها، فيكفي ان اتذهن شيئاً بدون شيء آخر،
حتى أتأكد أن الشيئين متميزان أو متغايران. إذ من الممكن ان يوجدا
منفصلين على الأقل بقدرة الله الواسعة. ولا أهمية لمعرفتي بأية قوة
يحصل هذا الانفصال كي اضطر إلى الحكم عليهما بانهما متغايران. وإذا
انطلقت من تأكيد معرفتي اني موجود، وان شيئاً آخر لا يخص طبيعتي، أو
جوهري، سوى اني شيء يفكر، جبراً، استطعت القول بان جوهري محصور في
اني شيء يفكر، أو اني جوهر كل ماهيته أو طبيعته ان يفكر، ليس إلا.
وعلى الرغم من انه قد يكون، بل يجب، كما سأبينه، ان يكون لي جسم اتصلت
به اتصالاً وثيقاً، فلدي فكرة واضحة متميزة عن نفسي، باعتبار اني لست
إلا شيئاً مفكراً لا شيئا ممتداً، ولدي أيضا فكرة متميزة عن الجسم،
باعتبار انه ليس الا شيئا ممتدا لا شيئاً مفكراً. لذا ثبت عندي ان
هذه الأنا، أعني نفسي التي بها أكون أنا من أنا، تتميز عن جسمي تمييزاً
تاماً حقيقياً. هي قادرة على ان تكون أو ان توجد بدونه.
18.
كيف ان ملكتي الحس والتخيل تخصان الذهن.
فضلاً
عن ذلك، أجد فيّ ملكتين من ملكات الفكر، خاصتين جداً، متميزتين عني،
هما ملكة التخيل والحس، اللتان أستطيع بدونهما ان اتذهن نفسي، بتمامها،
تذهناً واضحاً متميزاً، ولكني لا أستطيع ان اتذهنهما موجودتين بدوني،
أي بدون جوهر عاقل يرتبطان به. لان المعنى، الذي لدينا عن هاتين الملكتين،
أو (إذا جاز التعبير كما اصطلح المدرسيون) لأن مفهومهما الصوري يحتوي
على شيء من التعقل. لذا اتذهنهما متميزتين عني، على غرار الأشكال،
والحركات، وباقي الأحوال، والأعراض في الأجسام، متميزتين عن الأجسام
ذاتها، والتي هي سند لها.
19.
ان ملكة التنقل من مكان إلى مكان، وملكة اتخاذ أوضاع متنوعة، وملكات
أخرى، تخص الجسم لا الذهن. وانه يوجد، خارج أنفسنا جوهر قادر على ان
يولد فينا الأفكار عن الأشياء الحسية.
واجد
فيّ أيضاً ملكات أخرى، كملكة التنقل من مكان إلى مكان، وملكة اتخاذ
أوضاع كثيرة، وما شابه ذلك من ملكات لا يمكن تذهنها، ولا تذهن الملكتين
السابقتين، بدون جوهر ترتبطان به، أو تتواجدان بمعزل عنه. الا ان هذه
الملكات، إذا صح كونها موجودة، ينبغي ارتباطها بجوهر جسماني، أو ممتد،
لا بجوهر متذهَّن. لأن مفهومها الواضح المتميز ينطوي على نوع من الامتداد
لا على تذهن. يضاف إلى ذلك ما في من ملكة حس منفعلة، أي من ملكة وظيفتها
ان تتلقى، وتعي الأفكار عن الأشياء الحسية.
في ان الفكر، الذي هو جوهر الذهن، يتميز حقاً من الجسم.
أولاً،
لما كنت اعرف ان جميع الأشياء، التي اتذهنها بوضوح، وتمييز، يمكن لله
ان يوجدها على نحو ما اتذهنها، فيكفي ان اتذهن شيئاً بدون شيء آخر،
حتى أتأكد أن الشيئين متميزان أو متغايران. إذ من الممكن ان يوجدا
منفصلين على الأقل بقدرة الله الواسعة. ولا أهمية لمعرفتي بأية قوة
يحصل هذا الانفصال كي اضطر إلى الحكم عليهما بانهما متغايران. وإذا
انطلقت من تأكيد معرفتي اني موجود، وان شيئاً آخر لا يخص طبيعتي، أو
جوهري، سوى اني شيء يفكر، جبراً، استطعت القول بان جوهري محصور في
اني شيء يفكر، أو اني جوهر كل ماهيته أو طبيعته ان يفكر، ليس إلا.
وعلى الرغم من انه قد يكون، بل يجب، كما سأبينه، ان يكون لي جسم اتصلت
به اتصالاً وثيقاً، فلدي فكرة واضحة متميزة عن نفسي، باعتبار اني لست
إلا شيئاً مفكراً لا شيئا ممتداً، ولدي أيضا فكرة متميزة عن الجسم،
باعتبار انه ليس الا شيئا ممتدا لا شيئاً مفكراً. لذا ثبت عندي ان
هذه الأنا، أعني نفسي التي بها أكون أنا من أنا، تتميز عن جسمي تمييزاً
تاماً حقيقياً. هي قادرة على ان تكون أو ان توجد بدونه.
18.
كيف ان ملكتي الحس والتخيل تخصان الذهن.
فضلاً
عن ذلك، أجد فيّ ملكتين من ملكات الفكر، خاصتين جداً، متميزتين عني،
هما ملكة التخيل والحس، اللتان أستطيع بدونهما ان اتذهن نفسي، بتمامها،
تذهناً واضحاً متميزاً، ولكني لا أستطيع ان اتذهنهما موجودتين بدوني،
أي بدون جوهر عاقل يرتبطان به. لان المعنى، الذي لدينا عن هاتين الملكتين،
أو (إذا جاز التعبير كما اصطلح المدرسيون) لأن مفهومهما الصوري يحتوي
على شيء من التعقل. لذا اتذهنهما متميزتين عني، على غرار الأشكال،
والحركات، وباقي الأحوال، والأعراض في الأجسام، متميزتين عن الأجسام
ذاتها، والتي هي سند لها.
19.
ان ملكة التنقل من مكان إلى مكان، وملكة اتخاذ أوضاع متنوعة، وملكات
أخرى، تخص الجسم لا الذهن. وانه يوجد، خارج أنفسنا جوهر قادر على ان
يولد فينا الأفكار عن الأشياء الحسية.
واجد
فيّ أيضاً ملكات أخرى، كملكة التنقل من مكان إلى مكان، وملكة اتخاذ
أوضاع كثيرة، وما شابه ذلك من ملكات لا يمكن تذهنها، ولا تذهن الملكتين
السابقتين، بدون جوهر ترتبطان به، أو تتواجدان بمعزل عنه. الا ان هذه
الملكات، إذا صح كونها موجودة، ينبغي ارتباطها بجوهر جسماني، أو ممتد،
لا بجوهر متذهَّن. لأن مفهومها الواضح المتميز ينطوي على نوع من الامتداد
لا على تذهن. يضاف إلى ذلك ما في من ملكة حس منفعلة، أي من ملكة وظيفتها
ان تتلقى، وتعي الأفكار عن الأشياء الحسية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق