أحمر الشفاه..
ذلك الإصبع الصغير الملون الذي يختبئ اليوم في حقيبة كل امرأة، يحمل أسرار المجتمعات التي حكمت العالم، من الحقبة السومرية القديمة إلى عصر هيمنة الثقافة الأميركية.
بين الحياة والموت
الملكة شبعاد السومرية من أور القديمة كانت في طليعة عاشقات أحمر الشفاه في التاريخ، في حقبةٍ تعود إلى 3500 ق.م، ملونةً شفتيها بالرصاص الأبيض وفتات الصخور الحمراء ، فتبنى الشعب من نساءٍ ورجال ذلك الطقس في تزيين الشفاه حتى بعد الموت. مستحضرات التجميل المشتقة من الطبيعة، كانت مسؤولة عن عددٍ من الوفيات، ولكن أحمر الشفاه كان أقل خطورة، وكان رمزاً من رموز الخلود لحقبة طويلة من الزمن.
النهضة المصرية
صناعة أحمر الشفاه تطورت على أيدي المصريين ، إذ كانت تستخدم الفئة العليا من المجتمع، مع الملوك ورجال الدين، أنواعاً عدة منه رغم خطورة بعض مكوناته.
رجال ونساء تبرجوا يومياً لإظهار انتمائهم إلى طبقةٍ اجتماعية ما. وتطورت المكونات والوصفات مع مرور الوقت، وابتكرت الألوان الجديدة كالبرتقالي والبنفسجي. وأول لون أحمرٍ حقيقي شهده التاريخ اقتبس من القرمزي، ليرسم شفتي كليوباترا في العام 50 ق.م.
للعاهرات فقط
أتت الثقافة اليونانية لتنظر إلى زينة أحمر الشفاه بطريقة مثيرة للجدل، وأصبح ذلك التبرج حكراً على عالم العاهرات اللواتي استخدمن الطرق الطبيعية كصبغ الشفاه أو تلوينها بالنبيذ، أو مكونات أكثر غرابة كدهن الغنم وبراز التماسيح.
وفي تلك الحقبة ولد أول قانون يطال أحمر الشفاه، إذ كانت تتم معاقبة فتيات الهوى إذا ظهرن في المجتمع من دون الأحمر على شفاههن، كما لو أنهن ينتمين إلى سيدات المجتمع.
ثم انتقلت ثقافة أحمر الشفاه من عالم المومسات إلى عالم النخبة، بينما نساء الطبقة العاملة تفادين التبرج.
العودة إلى الأحمر
ما إن وقعت السلطة بيد الإمبراطورية الرومانية، عاد أحمر الشفاه إلى عزّه بعيداً عن المحظورات، بشكلٍ يدل على انتماء لطبقة اجتماعية ما، وليس لتحديد الجنس.
فاستعان الرجال به لإبراز رتبتهم إلى العلن، وللمزيد من الجمال بطبيعة الحال. هذا لا يعني أن المرأة لم تكن هي سيدة الموقف بما يتعلق بأحمر الشفاه، ومثالٌ على ذلك، كانت الإمبراطورة بوبايا سابينا زوجة نيرون، محاطة دوماً بـ100 مساعد ومساعدة، لتبقى شفتاها دوماً ملونتين.
تدخل الشياطين الاجتماعية
بعد انحدار موضة أحمر الشفاه في العصور المظلمة، أتى الدين في القرون الوسطى ليلعن ذلك المستحضر وينسبه للشيطان، خصوصاً في بريطانيا، مع بعض الحالات الاستثنائية، التي تُستخدم فيها ألوان "طاهرة" دينياً كالزهر والزنبق.
لكن مكانة أحمر الشفاه المتناقضة بين المرغوب والمنبوذ تطورت في عصر النهضة، فأعطت حرية الاستخدام للطبقة العليا، التي لا يطالها أحد في مختلف أنحاء أوروبا. بينما كان مصير الباعة المتجولين في الشوارع، الذين يتلاعبون بالخرافات الشعبية محاولين إقناع المارة بالقوة الساحرة التي يمتلكها أحمر الشفاه، الشنق كما هو مصير السحرة.
إنكلترا القرن السادس عشر هي بلاد الملكة إليزابيث الأولى، التي أشرفت على اختراع "قلم الحمرة" الأول في التاريخ، من خلال قولبة المكونات الطبيعية كحليب التين وبياض البيض والمسكة وصبغ القرمز، وتجفيفها تحت أشعة الشمس. وهي أيضاً بلاد شعب لحق ملكته في إيمانها بالقوة العجائبية التي يملكها أحمر الشفاه. لكن الكنيسة لم تحبّذ كثيراً ذلك الإيمان بتلك القوة الخارقة، فظهرت في تلك الحقبة صور لشياطين يضعون أحمر الشفاه، لدفع النساء إلى اللجوء إلى كرسي الاعتراف إذا ما تذوقن طعم تلك الخطيئة الجميلة. وكما يصفه موقع :psychologies أحمر الشفاه يعطي الفم طابعاً جنسياً، وبطاقة سفر سريعة إلى الجحيم.
الإغواء السري
في أواخر القرن الثامن عشر وأيضاً في إنكلترا، البلاد التي عاشت الصراع الثقافي الأكبر مع أحمر الشفاه، أصدر البرلمان قراراً يبطل زواج امرأة من رجل، ويتهمها بالشعوذة، إذا حاولت إغواءه بأحمر شفاهها وزهر خدودها حتى توقعه في فخ الزواج.
في أوائل القرن التاسع عشر، صرّحت الملكة فيكتوريا علناً أن التبرج هو أمرٌ "غير مهذب" ومخصص فقط للعاهرات والممثلات، وخصوصاً أحمر الشفاه الذي كان يعتبر "الأكثر فظاظة". وهنا ظهرت موجة مثيرة للاهتمام، إذ حاولت النساء وضع إستراتيجيات للتهرب من الحظر الاجتماعي على استخدام مستحضرات التجميل، من خلال تقبيل ورقة كريب وردية أو عض الشفاه حتى يميل لونها إلى الأحمر.
المؤسسات السرية لبيع مستحضرات التجميل كثرت آنذاك، تلجأ إليها المرأة مع غطاء على الرأس كي لا يعرفها أحد، تدخل غرفة خاصة فردية حيث يتم تهريب أحمر الشفاه، قبل أن تعود وتختبئ في منزلها وحدها، أو تتشارك "مخدّرها" الاجتماعي مع صديقاتها.
فك العقدة
بدأت تلك النظرة المهينة إلى أحمر الشفاه تتغير بفضل الممثلات، اللواتي أبقين على استخدام مستحضرات التجميل في العمل، وعاهرات الطبقة العليا من المجتمع أو Demi-mondaines.
حتى الرجال, بدأوا في تلك الفترة يحبذون استخدام المرأة لمستحضرات التجميل، لإلهائها عن أمورٍ تشكل خطورة أكبر بالنسبة إليهم، كممارسة الرياضة أو الانقضاض على الوظائف. إلى أن جاءت الممثلة الفرنسية الشهيرة Sarah Bernhardt حاملةً معها إحدى أكبر فضائح العصر، يوم ظهرت في العلن وهي تضع أحمر للشفاه جريئاً عام 1880.
الاحمرار الاقتصادي
انطلاقة القرن العشرين رافقها تغيرات جذرية على الصعيد الاقتصادي والثقافي – الاجتماعي، خصوصاً مع نهضة القوة الأميركية، وهذا ما أدى إلى تحرر رمزية أحمر الشفاه، لتصبح مخصصة للمرأة ورمزاً لاستقلاليتها الاجتماعية.
الشركة الفرنسية Guerlain قدمت أول أحمر شفاه على شكل إصبع صغير لزبائنها الأرستوقراطيين. وليلة اندلاع الحرب العالمية الأولى، أصبح ذلك الإصبع الأحمر الصغير في متناول الجميع، برغم حظر بعض الولايات استخدامه لمن هن دون الـ44 عاماً، لخلق انطباع زائف.
قوة أحمر الشفاه "الشافية"، كما نظرت إليها الملكة إليزابيث الأولى، عادت لتتجسد بقرار ونستون تشرشل تقنين إنتاج مستحضرات التجميل خلال الحرب العالمية الثانية، باستثناء أحمر الشفاه بفضل تأثيره الإيجابي على المعنويات.
البروباغندا الهوليوودية
عشقت إليزابيث تايلور أحمر الشفاه إلى درجة طلبت أن لا يضع أي شخصٍ آخر من طاقم أفلامها اللون الأحمر على الشفاه. وكانت معروفة بقولها: "اسكبي لنفسك كأساً، ضعي أحمر الشفاه، واستعيدي معنوياتك".
في الخمسينيات من القرن الماضي تحولت رمزية أحمر الشفاه من "لحظات ديفا" إلى اللمسة التجميلية الأخيرة لأي لباس، لتبدو كل امرأة مثل ماريلين مونرو وإيفا غاردنر وغيرهما.
إلا أن فترة الستينيات والسبعينيات ابتعدت عن الأحمر لتقترب أكثر من الألوان الداكنة، كالأسود والبنفسجي تماشياً مع موجة البانك Punk. لتعود مادونا في الثمانينيات وتقبل الشاشات بشفتيها الحمراوين، وتعيد الثورة الأنثوية الحمراء إلى مكانها.
اليوم 80% من نساء أميركا الشمالية يستخدمن أحمر الشفاه باستمرار، بينما 30% منهن يملكن 20 قلماً للشفاه على الأقل، في أي مرحلة من حياتهن الراشدة. لا نملك إحصاءات عن استخدام المرأة العربية واستهلاكها لأحمر الشفاه، لكن معظم نساء البلاد العربية يظهرن للعلن بأحمرٍ جذاب على شفاههن، برغم الفتاوي التي تحظر الظهور أمام الأجانب مع شفتين حمراوين. وتسمح باستخدام أحمر الشفاه، إذا كانت غايته فقط التجمل للزوج.
سلاح المرأة الفعّال
بلغة علم النفس، يرتبط اللون الأحمر بالدفء والطاقة الإيجابية والاندفاع، وهذا ما يؤثر على معنويات المرأة. وقد برهن علماء من جامعة Manchester أن شفتي المرأة الملونتين بالأحمر، أكثر جاذبية للجنس الآخر، من خلال دراسة خضع فيها 50 رجلاً لمشاهدة صور لنساء، نتج عنها أنهم يحدقون بالشفاه الحمراء اللون مدة 7.3 ثوانٍ، وبالشفاه الزهرية اللون مدة 6.7 ثوانٍ، و2.2 ثانيتين بشفاه طبيعية غير ملونة.
دراسة أخرى من فرنسا أكدت أن نادلات المطاعم، اللواتي يستخدمن أحمر الشفاه ينلن بقشيشاً أعلى من النادلات بشفاه ملونة بالزهر أو البني أو غير الملونة. فـ50% من البقشيش يعطيها الزبائن الرجال للشفاه الحمراء، بينما 30% منها يذهب للشفاه الأخرى . كـ شفتي المرأة الجنسية
بحسب Diane Ackerman كاتبة “A Natural History of the Senses”، يعتقد علماء الأنتروبولوجيا أن تلوين الشفاه بالأحمر هو بمثابة تذكير بلون شفتي المرأة الجنسية . وقد يكون هذا هو سبب حظره على مدى عقود طويلة.
رأي الرجل المعاصر بلون شفتي المرأة
موقع Cosmopolitan جمع آراء بضعة رجال حول ألوان مختلفة من أحمر الشفاه. فأتت النتائج على الشكل التالي:
اللون الأحمر :
"الشفاه الملونة بالأحمر لا يمكنها إلا أن تجذبنا، ولكن أحياناً تبدو المرأة وكأنها تبالغ بمحاولة لفت انتباهنا".
اللون الزهري :
"شفاه مرسومة بلون الزهر اللماع، قد تعطي طابعاً رخيصاً".
الألوان الداكنة :
"الشفاه الداكنة قد تبدو جذابة وغامضة على بعضهن، ولكن قد تعطي طلة إيموEmo على نوعٍ آخر من النساء".
الشفاه الطبيعية :
"شفاه طبيعية يعني أن لونها يميل إلى الزهري الفاتح، فاتنة وجذابة".
اللون البرتقالي :
"الشفاه البرتقالية قد تبدو غريبة جداً لنا حتى درجة الإزعاج".
( منقول )
لكم التعليق
0 التعليقات:
إرسال تعليق